(الجزء الاول)
تقديم
في عام ١٩٥٩م وقع تطور تاريخي هام بانتهاء الصراع بين سلطتين متنافستين على حكم عُمان منذ عام ١٩٥٤م .. الامامة في الداخل والسلطنة في بقية ارجاء ها. وقد انتهي الصراع التراجيدي المرير بانتصار قوات السلطان بمساندة وتدخل القوات البريطانية فيما يعرف بتمرد الجبل الاخضر من وجهة نظر حكومة المرحوم السلطان سعيد بن تيمور وثورة الجبل الأخضر من وجهة نظر الامام غالب بن على الهنائي .وقررت الحكومة مؤخرا طي آخر صفحة من ذكريات تلك الحرب المأساوية للابد بتطهير الجبل الأخضر من ما تبقى من قنابل لم تنفجر خلفتها تلك الحرب المأساوية ، والتي باتت دوما مصدر خطر داهم يهدد سكانه وزواره ومبعث لذكرياته الاليمة .
وقد أثار بعض الاخوة في السبلة وهم من ابناء الجبل كما يبدو موضوع التطهير وادعوا بأن من بين الممارسات البريطانية الاجرامية بحق اجدادهم استخدام سلاح الجو الملكي البريطاني لقنابل انشطارية او عنقودية بالاحرى في هجماتهم ، لازال بعض منها باق ضمن القنابل التي لم تنفجر والتي مضى عليها حوالي نصف قرن من الزمن !
هذا الادعاء المبني حسب زعمهم من روايات أناس ثقاة أثار في الفضول الصحفي ودفعني للبحث والتقصي عن حقيقة وملابسات حرب الجبل الأخضر وبالذات عن الحرب الجوية التي تعرضت لها من قبل طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني المقاتلة والقاذفة والاستخدام المزعوم للقنابل الانشطارية ولكن للاسف فسرت مشاركاتي في الموضوع المطروح (آنظر الرابط : http://www.omania2.net/avb/showthread.php?t=564109 ) من قبل البعض على انه محاولة للتقليل من شأن ما حصل وتعد على خصوصيتهم !!
ولذا قررت طرح هذا الموضوع او التحقيق الذي ساحاول فيه الاجابة عن السؤال المطروح في العنوان .. هل ارتكبت القوات البريطانية جرائم حرب في الجبل الأخضر !؟ وذلك بالاعتماد على مصادر بريطانية او كما نقول .. شهد شاهد من أهلها .. قامت بسرد التفاصيل شبه المكتملة حول تلك الحملة الجوية التي كانت السبب الرئيسي في اندحار قوات الامامة وانتصار قوات السلطان سعيد بن تيمور فيما يعرف بثورة الجبل الأخضر. علما بأن المصادر سيتم ادراجها في نهاية التحقيق .
التمهيد للعمليات الجوية
بعد تعرض فوج من قوات سلطان مسقط وعُمان البرية كان مرابطا الى الجنوب من قرية فرق القريبة من مدينة نزوى للهزيمة والاندحار عام ١٩٥٧م اثناء محاولتها دخول قرية بلاد سيت حيث اعلن عن قيام الامامة من جديد بعد استسلامها السابق للسلطان سعيد بن تيمور في نزوى عام ١٩٥٥م دون اطلاق رصاصة واحدة واحتلال قواته المرابطة حينها في فهود لمدن الداخلية الرئيسية ، استنجد السلطان بحلفائه الانجليز بعد ان ايقن انه غير قادر هذه المرة بما تبقى له من قوات تكرار الانتصار السابق طالبا من الحكومة البريطانية في لندن المساعدة العاجلة ، والتي بدورها اسرعت بشكل غير مسبوق لمساعدة السلطان على الحاق الهزيمة بالمتمردين قبل ان تسارع وتتمكن الجهات الدولية من التنديد والاعتراض وذلك على ان تستخدم اقل قدر من القوة في تنفيذ ذلك .وقام الحاكم السياسي البريطاني المقيم والمسؤول عن منطقة الخليج حينها في البحرين ، سير برنارد باروز بدوره باستشارة قائد القوات البريطانية في شبه الجزيرة العربية ومقره في محمية عدن والذي اشار الى امكانية القضاء على التمرد المذكور باستخدام القوة الجوية فقط .
واقترح انه بعد استسلام المتمردين يمكن لقوات السلطان مدعومة بقوة كشافة ساحل عُمان من ان تتحرك وتحتل المنطقة من جديد . واعلن وزير الخارجية البريطاني حينها في مجلس العموم بأنه لن يتم استخدام قوات بريطانية في العملية.
وأثر ذلك انتقلت على وجه السرعة اربعة اسراب من ثماني طائرات فنوم Venom من قاعدة عدن الى الشارقة في الـ ٢٠ من يوليو مع طواقمها الارضية والمعدات . وطائرات فنوم النفاثة من ذوات مقعد واحد ومسلحة باربعة مدافع من عيار ٢٠ ملم يمكنها اطلاق المتفجرات والمقذوفات الحارقة وبامكانها ان تحمل ٨ صواريخ برؤوس متفجرة زنتها ٦٠ رطلا تصلح لتدمير الدبابات والمباني والسفن الصغيرة .. الخ.
ونتيجة للعملية المفاجئة في عُمان تم ايضا الاستعانة بوحدات جديدة من القوات البريطانية حيث تولت فرقة الكاميرونيين مهام الحامية في الشارقة والبريمي بدلا من فرقة كشافة ساحل عُمان . وانتقلت اربعة طائرات قاذفة من طراز شاكلتون Shakleton من السرب ٤٢ من عدن للبحرين .
وقد سبقت الغارات الجوية رحلات استطلاعية فوق المناطق التي يسيطر عليها الثوار وذلك للتأقلم والتقاط الصور الجوية لتحديد الاماكن الصحيحة للقرى واعداد الخرائط. واستخدمت طائرات من طراز بمبروك Pembrokes من السرب ١٤١٧ المرابط في البحرين للمراقبة ورصد التحركات على الارض في وسط عُمان والتحقق من الابراج والقلاع التي ترفع اعلام الامامة البيضاء حيث اتضح بجلاء غياب اعلام السلطان الحمراء ووقوع المنطقة بأسرها تقريبا بيد رجال الامام.
وبتاريخ ٢٢ يوليو ١٩٥٧م شاركت ٨ طائرات فنوم وطائرة شاكلتون في القاء منشورات تحذيرية بالقرب من قلعة ازكي التي اختيرت كهدف لمقاتلات فنوم . وتكرر ذلك في اليوم التالي ايضا حيث القيت المنشورات بالقرب من قلعة نزوى .
العمليات الجوية
وفي ٢٤ يوليو ١٩٥٧م بدأت طائرات الفنوم بمهاجمة القلاع في نزوى وازكي وتنوف بالصواريخ ليومين متتاليين بمعدل ١٠ الى ١٢ غارة على كل قلعة . واظهرت صور جوية التقطت أثر تلك الغارات لتقييم حجم الاضرار ان الغارات كانت ناجحة لحد ما ولكن الصواريخ لم تنجح سوى في احداث اضرار سطحية في جدران القلاع بدلا من اختراقها وتدميرها كما كان يتوقع ، وتضررت بعض الجدران ولكن لم تنهار أي من القلاع الثلاثة . وصمدت قلعة نزوى الدائرية العظيمة امام الغارات التي اسفرت فقط عن تصدعات في جدرانها السميكة .وفي ٢٧ يوليو ١٩٥٧م وصلت ٦ طائرات فنوم من السرب ٢٤٩ الى الشارقة قادمة من قاعدتها في نيروبي . وبعد ان استقرت يوما واحدا حلقت جميعها في اليوم التالي لتهاجم قلعة بركة الموز (بيت الرديدة) بمشاركة ٤ طائرات فنوم من السرب الثامن .
يذكر ان طائرات شاكلتون القاذفة كانت توفر غطاءا لمقاتلات الفنوم ولكن قصفها اقتصر على استخدام القنابل الصغيرة من زنة ٢٠ رطلا المضادة للافراد. واعتبرت القنابل الكبيرة من زنة ٥٠٠ و ١٠٠ رطل شديدة الانفجار صعبة للغاية في التوجيه والدقة .
وبدا ان العمليات الجوية لم تأتي بالنتائج المتوقع منها فقامت طائرات الشاكلتون بالقاء مزيدا من المنشورات التي تهدد بمزيد من الغارات الجوية . وانيطت باحدى طائرات الشاكلتون مهمة القاء المنشورات بداخل قلعة فرق وليس خارجها لسبب ما ولذا جرى لف المنشورات ووضعها بداخل علب معدنية فارغة تم القائها من على علو منخفض وقد تعرضت نتيجة ذلك الطائرة لزخات من الرصاص لم تسفر سوى عن اضرار طفيفة.
وفي تاريخ الـ ٣٠ من يوليو ١٩٥٧م هاجمت طائرات الفنوم من السربين قلعة فرق بالصواريخ واشعلت النيران في عدد من العربات بها ، وفي اليوم التالي انتقل الهجوم الى قلعة بهلا. وفي الاول من اغسطس ١٩٥٧م تركزت الغارات على مخيم قوة مسقط وعُمان البرية السابق في فرق (سقط بيد الثوار بعد اندحار رجالها في محاولتهم دخول بلاد سيت) وعلى بعض الخيام القريبة وقلعة نزوى الحصينة . وبدأت بعض الاعلام الحمراء في الظهور وذلك على الارجح لتجنب مزيدا من الغارات الصاروخية وليس اعلانا عن ولاء حقيقي للسلطان.
وتلى ذلك القاء طائرات الشاكلتون لمنشورات على منطقة اعتبرتها محرمة يمنع التحرك فيها وقامت طائرات الفنوم والشاكلتون بدوريات الزمت الاهالي عدم الخروج من قراهم . وانسحب الثوار الذين ناهز عددهم الالف رجل الى المناطق المحيطة خارج فرق وتنوف وبهلا. ورغم انسحابهم من القلاع التي تعرضت للقصف بالصواريخ وخضعت مناطقهم للسيطرة الجوية ، الا انهم لم يستسلموا ونتيجة لذلك لم تتمكن كما كان مخططا قوات السلطان وكشافة ساحل عُمان من احتلال مناطقهم .
ولذا لم يتبقي امامنا سوى خيارين .. الأول هو انهاء العمليات والانسحاب وتسليم المنطقة للثوار، والثاني هو ارسال قوات بريطانية برية لتشارك في المعارك رغم تعهد ورير الخارجية في مجلس العموم بعدم اللجوء لذلك.
لقطة لطائرة من طراز فنوم تابعة لسلاح الجو العراقي كتلك التي استخدمها سلاج الجو الملكي البريطاني في حرب الجبل.
طائرة من طراز شاكلتون القاذفة التي شاركت في الاغارة على الجبل الاخضر.
اطلال قلعة بهلا التي تعرضت لهجمات الطائرات البريطانية
العمليات البرية
تم نقل فرقة الكاميرونيين (هي كتيبة اسكوتلندية تعرف ايضا بالبنادق الاسكوتلندية) في طائرتين الى فهود، بينما جلبت الفرقتان ١٥و١٩ من قوات الهوازر Hussars (اصل الكلمة مجري ويطلق على فرق الخيالة) بعرباتها المصفحة من عدن . وسحب جزء من طائرات السرب الثامن الى عدن مؤقتا تاركة السرب ٢٤٩ في الشارقة ولكنها عادت مرة اخرى في الخامس من اغسطس ١٩٥٧م.واتفق على ان يكون الهجوم على مناطق الثوار (جيش الامام) من اتجاهين . الى الجنوب الغربي تجمع الكاميرونيون في فهود وتقدموا نحو فرق وانضمت لهم قوات كشافة ساحل عُمان وقوات السلطان من فوج الحدود الشمالية عند بئر العويفي وعرفت هذه القوات مجتمعة بقوة كارتر نسبة للكولونيل ستيورت كارتر قائد قوات كشافة ساحل عُمان .
ومن الجهة الاخرى تحركت قوة فرانك هيغ نسبة لقائد فوج مسقط من مركزها في بيت الفلج بالقرب من مسقط وهي في الاصل وحدة صغيرة مخصصة اصلا للمناسبات وباضافة مجموعة لها من مستودع التدريب استطاع فرانك جمع ١٠٠ رجل ، وتم استئجار عربات لوري لنقلهم من مقاول هندي .
وعند وصولهم لواد وعر بعد تجاوز بدبد التقوا بحشد من رجال القبائل الموالية بقيادة السيد طارق بن تيمور اخ السلطان وكانوا هم الاخرون يستقلون عربات لوري مستأجرة وتوجهوا جميعا بحذر صوب الجنوب . وكانوا مدهوشين طوال فترة تقدمهم من انعدام المقاومة .
عند توقفهم قريب الغسق تقدم نحوهم رجل وحيد على ظهر حماره اخبرهم بانه كان في زيارة لاصدقائه وانه لا علوم لديه (اخبار) ولم يسمع عن شيء يستحق الذكر ولم يبدي ادنى اهتمام يذكر برجال هيغ ، وبعد ان امتطى حماره ليواصل المسير التفت بكل هدوء ليقول : "لقد التقيت سليمان بن حمير في إمطي وهو بصحة جيدة ومعه ٦٠٠ رجل ويقول انه سيذبحكم جميعا الليلة , الله اكبر" ومضى مبتعدا على حماره باتجاه بدبد. قامت قوة هيغ بتشديد الحراسة على حواجزها الصخرية وقام الضباط بتشجيع انفسهم وتحفيزها بلعب الورق وتجرع الويسكي !!!
وفي صباح اليوم التالي قامت دورية استطلاع بالاستكشاف جنوبا باتجاه إمطي وبعد تقدمها نحو بعض التلال البنية بعد تجاوز بعض الاحراش سمعت طلقات رصاص بعيدة في اول الامر وليتعالى أزيزها سريعا نحوها وتجد الدورية انها مستهدفة بالهجوم .
وهنا تم طلب النجدة الجوية لتحلق بعد بعض الوقت طائرات الفنوم النفاثة من السرب الثامن على علو منخفض باديء الامر فوق قوات الامام في حركة استفزازية جعلتهم بدل الاحتماء في مخابئهم يقفون ملوحين باسلحتهم وهم يهتفون ساخرين ، لتعود الطائرات من جديد وتنقض بصواريخها لتصيب اهدافها التي انكشفت فوق التلال البنية مباشرة .
ولم يصب احد من قوة هيغ التي تابعت مسيرها جنوبا . وحول ازكي جوبهت ببعض المقاومة لتقوم هذه المرة طائرات شاكلتون القاذفة بالقاء مجموعات من قنابل ٢٠ رطلا مضادة للافراد عليهم . وقد تاخر تقدم قوة هيغ ليومين حيث توقفت قبل ان تباشر الهجوم مجددا وتتوغل في داخل المناطق التي يسيطر عليها رجال الامام وذلك الى ان تصل قوة كارتر الاكثر قوة وعتادا.
صور نادرة جدا تعرض لأول مرة
في العدد الصادر بتاريخ ٢٦ اغسطس ١٩٥٧م نشرت مجلة لايف الامريكية LIFE تحقيقا بعنوان نزهة مسقط ! The Muscat Ramble على الصفحتين ٣٦ و٣٧ تناولت فيه نهاية حرب الجبل الاخضر مع مجموعة من الصور انشر هنا اثنتين منهما كدليل على استخدام الطائرات النفاثة من نوع الفنوم في الهجوم على قلعة نزوى في استعراض فارط للقوة .في هذه الصورة نرى الطائرة وهي تحلق حول القلعة التي وصفتها المجلة بأنها كانت مقر قيادة الامام قبل ان تقصفها بالصواريخ في غارات متواصلة ومكثفة .
هنا نرى الدخان يتصاعد من داخل القلعة بعد ان قصفت بعدد من الصواريخ وتدعي الجريدة ان البريطانيين كانوا قد انذروا الاهالي قبل الهجوم ! ( يبدو في الصورتين مدى الدمار الذي لحق بالقلعة الحصينة التي تحدت الهجمات ولم تتهاوى كما كانوا يتوقعون لها ولقلاع اخرى كقلعة بهلا وازكي وبيت الرديدة والعديد من الابراج بالاضافة لقرى الجبل وقرية تنوف التي دمرت بالكامل ) .
سوف انقل ما جاء في المقال بالاضافة لصور اضافية في حلقة قادمة .
No comments:
Post a Comment