وأذ ارى اعجاز النخيل الخاوية وما آلت اليه حال الزراعة في وطني من تدهور غير مسبوق اصاب بغصة وحسرة على حالنا .. وتعود بي الذاكرة للوراء .. لصيف عام ١٩٦٨م عندما زرت سمائل للمرة الاولى منطلقا من مطرح راكب درجة سياحية فوق جواني الارز والسكر والطحين وربطات العوال متلثما ومتشبثا طوال الرحلة الشاقة التي استغرقت النهار كله تقريبا بالجواني في صندوق سيارة لاندكروز مكشوفة تئن وتصارع وعورة الطريق الترابية الحجرية او الجرجرة كما كانت تعرف حينها.
وعند الوصول للفيحاء كنت كمن دخل عالم مدهش بجماله الآخاذ .. فرحت اتجول في واديها الخصب ومقاصيرها كالتائه المفتون .. كانت اشجار النخيل الباسقة ذات جذوع ضخمة منتظمة التقليم والصفوف تئن تحت وطأة الثمار الطازجة من افخر انواع التمور كالفرض والمبسلي .. ورائحة الزيتون (الجوافة) والسفرجل وازهار اللومي وغيرها تملأ الاجواء عطرا شذيا .. وصوت حبات الامبا وهي تسقط في الاحواض وخرير المياه الرقراقة المنسابة في قنوات الافلاج وتغريد البلابل وحفيف الاوراق .. سيمفونية رائعة اضفت على الجو روعة ما بعدها روعة نسيت معها وعثاء الطريق .. وكان الوادي الجميل غزير المياه يصعب عبوره في كثير من الاماكن وسريع الجريان كفلج السمدي الخطير.. وعلى ضفتيه ارتفعت هامات النخيل والاشجار المثمرة والاعشاب ونباتات القصب .. وبينها كانت الاغنام السمان تسرح وتمرح .
هذا المنظر الرائع انطبع في ذاكرتي ولن انساه ما حييت .. واليوم وبعد ثلاثة عقود ونيف من عمر النهضة المباركة التي حملتنا من غياهب النسيان والتخلف الى مصاف الدول النامية المتطورة التي وضعت نفسها على خريطة العالم تبدلت الاحوال في كثير من المناحي للافضل .. ولكن زراعيا للاسوأ .. فاصبح الوادي الجميل شارعا مزدحما اكتظت على جنباته المكعبات الاسمنتية وماتت ما تبقى من النخيل عطشا .. امتدت المدنية لتغزو كل شيء واختفى الوادي الجميل للابد .. كل ذلك باسم التطور والتغيير .. ضريبة باهضة لابد من دفعها كما يقال.
.. لماذا نجح اجدادنا في الزراعة واستغلال المياه باساليبهم البدائية التقليدية وبالمحراث والثور والفلج والمنجور ؟ .. وفشلنا نحن مع تسخيرنا للتقنية والميكنة والعلوم الحديثة ؟.
. لماذا تفتك بنخيلنا حشرات المتق التافهة وتحصد اشجار اللومي مكنسة العجوز الساحرة .. ونقف عاجزين غير قادرين على مقاومتها وحتى احتوائها ؟؟ .
. لماذا جفت افلاجنا وقتل الضمأ نخيلنا وهي واقفة ؟؟ .
. لماذا اصبحنا نستورد التمور وثمار اللومي .. وكنا بالامس فقط نصدرها طازجة ومجففة ؟؟ .
. اين ابداع وفكر مئات المهندسين الزراعيين والدكاترة من ذلك .. فهل يعقل ان يتفوق البيدار الامي على العلماء والمهندسين ؟؟.
أذن لا ملامة في ان نصدق من قال ان قديم البريسم .. احسن من جديد الصوف .. وان علينا ان نعود للاجداد ونستقي من خبرتهم وحكمتهم في الزراعة والري لأن تجاربهم الثرية اثبتت نجاحها .. وعلومنا الحديثة اثبتت فشلها. . وكما يقولون .. مدهشة هذه البلاد الرائعة .. تترك أرثها وتبحث عن أرث الآخرين
No comments:
Post a Comment